كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



اختلاف فرقهم المشهورة في شخصية المسيح:
ثم اختلفوا: فقالت اليعقوبية- أتباع يعقوب البرادعي، ولقب بذلك: لأن لباسه كان من خرق برادع الدواب، يرقع بعضها ببعض ويلبسها-:
إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين: إحداهما: طبيعة الناسوت، والأخرى: طبيعة اللاهوت، وإن هاتين الطبيعتين تركبتا فصار إنسانًا واحدًا، وجوهرًا واحدًا، وشخصًا واحدا، فهذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح، وهو إله كله، وإنسان كله، وهو شخص واحد، وطبيعة واحدة من طبيعتين. وقالوا: إن مريم ولدت الله، وأن الله سبحانه قبض عليه وصلب، وسمر ومات ودفن، ثم عاش بعد ذلك.
فصل:
وقالت الملكية- وهم الروم، نسبة إلى دين الملك، لا إلى رجل يدعى ملكانيًا، هو صاحب مقالتهم، كما يقوله بعض من لا علم له بذلك-:
أن الابن الأزلي الذي هو الكلمة تجسدت من مريم تجسدًا كاملًا كسائر أجساد الناس، وركبت في ذلك الجسد نفسًا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانًا بالجسد والنفس الذين هما من جوهر الناس، وغلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناس مثل إبراهيم وموسى وداود، وهو شخص واحد لم يزد عدده، وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل، وصح له جوهر الناسوت الذي لبسه ابن مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدد وطبيعتان، ولكل واحة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود. وقالوا: إن مريم ولدت المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت، وقالوا: إن الذي مات هو الذي ولدته مريم، وهو الذي وقع عليه الصلب والتسمير والصفع والربط بالحبال، وهو لم يمت ولم يألم ولم يدفن، قالوا: وهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله المشيئتان: مشيئة اللاهوت، ومشيئة الناسوت.
فأتوا بمثل ما أتى به اليعقوبية من أن مريم ولدت الإله، إلا أنهم بزعمهم نزهوا الإله عن الموت.
وإذا تدبرت قولهم وجدته في الحقيقة هو قول اليعقوبية مع تنازعهم وتناقضهم فيه، فاليعقوبية أطرد لكفرهم لفظًا ومعنى.
وأما النسطورية فذهبوا إلى القول: بأن المسيح شخصان وطبيعتان، لهما مشيئة واحدة، وأن طبيعة اللاهوت لما وجدت بالناسوت صار لهما إرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان، ولا يمتزج بشئ، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بذلك إلهًا وإنسانًا، فهو الإله بجوهر اللاهوت الذي لا يقبل الزيادة والنقصان، وهو إنسان بجوهر الناسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان. وقالوا: إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وأن اللاهوت لم يفارقه قط.
وكل هذه الفرق استنكفت أن يكون المسيح عبدًا لله، وهو لم يستنكف من ذلك، ورغبت به عن عبودية الله وهو لم يرغب عنها، بل أعلى منازل العبودية عبودية الله، ومحمد وإبراهيم خير منه، وأعلى منازلهما تكميل مراتب العبودية، فالله رضيه أن يكون له عبدًا فلم ترض المثلثة بذلك.
وقالت الأريوسية منهم-
وهم أتباع أريوسك-:
إن المسيح عبدًا لله كسائر الأنبياء والرسل، وهو مربوب مخلوق مصنوع، وكان النجاشي على هذا المذهب.
وإذا ظفرت المثلثة بواحد من هؤلاء قتلته شر قتله، وفعلوا به ما يفعل بمن سب المسيح وشتمه أعظم سب. والكل من تلك الفرق الثلاث عوامهم لا تفهم مقالة خواصهم على حقيقتها، بل يقولون: إن الله تخطى مريم كما يتخطى الرجل المرأة وأحبلها فولدت له ابنًا، ولا يعرفون تلك الهذيانات التي وضعها خواصهم، فهم يقولون: الذي تدندنون حوله نحن نعتقده بغير حاجة منا إلى معرفة الأقانيم الثلاثة من الطبيعتين والمشيئتين، وذلك للتهويل والتطويل، وهم يصرحون بأن مريم والدة الإله، والله أبوه، وهو الابن، فهذا الزوج، والزوجة، والولد: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}.
محمد برأ المسيح وأمه من افتراء أعدائهما وأنزله المنزلة العالية ونزه الله عن افتراء المثلثة عليه:
فهذه أقوال أعداء المسيح من اليهود والغالين فيه من النصارى المثلثة عباد الصليب، فبعث الله محدًا صلى الله عليه وسلم بما أزال الشبهة في أمره وكشف الغمة، وبرأ المسيح وأمه من افتراء اليهود وبهتهم وكذبهم عليهما، ونزه رب العالمين وخالق المسيح وأمه مما افتراه عليه المثلثة عبّاد الصليب، الذين سبوه أعظم السب، فأنزل المسيح أخاه بالمنزلة التي أنزله الله بها وهي أشرف منازله، فآمن به وصدقه، وشهد له بأنه عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول الطاهرة الصديقة سيدة نساء العالمين في زمانها، وقرر معجزات المسيح وآياته، وأخبر عن ربه تعالى بتخليد إخوان القردة منه.
ما زعمته النصارى أنهم نالوه منه، بل رفعه إليه مؤيدًا منصورًا، لم يشك أعداؤه بشوكة، ولا نالته أيديهم بأذى، فرفعه إليه وأسكنه سماءه، وسيعيده إلى الأرض ينتقم به من مسيح الضلال وأتباعه، ثم يكسر به الصليب، ويقتل به الخنزيل، ويعلى به الإسلام، وينصر به ملة أخيه، وأولى الناس به محمد عليهما أفضل الصلاة والسلام.
فإذا وضع هذا القول في المسيح في كفة، وقول عباد الصليب المثلثة في كفة؛ تبين لكل من له أدنى مسكة من عقل ما بينهما من التفاوت، وأن تفاوتهما كتفاوت ما بينه وبين قول المغضوب عليهم فيه، وبالله التوفيق.
فلولا محمد صلى الله عليه وسلم لما عرفنا أن المسيح ابن مريم الذي هو رسول الله وعبده وكلمته وروحه موجود أصلًا، فإن هذا المسيح الذي أثبته اليهود من شرار خلق الله، ليس بمسيح الهدى، والمسيح الذي أثبته النصارى من أبطل الباطل، لا يمكن وجوده في عقل ولا فطرة، ويستحيل أن يدخل في الوجود أعظم استحالة، ولو صح وجوده لبطلت أدلة العقول، ولم يبق لأحد ثقة بمعقول أصلًا، فإن استحالة وجوده فوق استحالة جميع المحالات، ولو صح ما يقول لبطل العالم، واضمحلت السموات والأرض، وعدمت الملائكة، والأرض والكرسي، ولم يكن بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار.
ولا يستعجب من إطباق أمة الضلال الذين شهد الله أنهم أضل من الأنعام على ذلك، فكل باطل في الوجود ينسب إلى أمة من الأمم فإنها مطبقة عليه، وقد تقدم ذكر إطباق الأمم العظيمة التي لا يحصيها إلا الله على الكفر والضلال بعد معاينة الآيات البينات، فلعبّاد الصليب أسوة بإخوانهم من أهل الشرك والضلال.
النصارى تلقوا أصول دينهم عن أصحاب المجامع:
في ذكر استنادهم في دينهم إلى أصحاب المجامع، الذين كفروا بعضهم بعضًا، وتلقيهم أصول دينهم عنهم، ونحن نذكر الآن الأمر كيف ابتدأ وتوسط، وانتهى، حتى كأنك تراه عيانًا.
كان الله سبحانه قد بّشر بالمسيح على ألسنة أنبيائه، من لدن موسى إلى زمن داود، ومن بعده من الأنبياء، وأكثر الأنبياء تبشيرًا به داود، وكانت اليهود تنتظره وتصدق به قبل مبعثه، فلما بعث كفروا به بغيًا وحسدًا، وشردوه في البلاد، وطردوه، وحبسوه وهموا بقتله مرارًا إلى أن أجمعوا على القبض عليه وعلى قتله، فصانه الله وأنقذه من أيديهم، ولم يهنه بأيديهم، وشبه لهم بأنهم صلبوه ولم يصلبوه، كما قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}، وقد اختلف في معنى قوله: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} فقيل: المعنى: ولكن شبه للذين صلبوه بأن ألقى شبه على غيره فصلبوه الشبيه، وقيل: المعنى ولكن شبه النصارى، أي: حصلت لهم الشبهة في أمره، وليس لهم علم بأنه ما قتل وما صلب، ولكن لما قال أعداؤه: إنهم قتلوه وصلبوه واتفق رفعه من الأرض، وقعت الشبهة في أمره، وصدقهم النصارى في صلبه لتتم الشناعة عليهم، وكيف ما كان، فالمسيح صلوات الله وسلامه عليه لم يقتل ولم يصلب يقينًا لا شك فيه.
ثم تفرق الحواريون في البلاد بعد رفعه على دينه ومنهاجه يدعون الأمم إلى توحيد الله ودينه والإيمان بعبده ورسوله ومسيحه، فدخل كثير من الناس في دينه، ما بين ظاهر مشهور ومختف مستور، وأعداء الله اليهود في غاية الشدة والأذى لأصحابه وأتباعه، ولقى تلاميذ المسيح وأتباعه من اليهود ومن الروم شدة شديدة، من قتل وعذاب وتشريد وحبس وغير ذلك، وكان اليهود في زمن المسيح في ذمة الروم وكانوا ملوكًا عليهم، وكتب نائب الملك ببيت المقدس إلى الملك بعلمه بأمر المسيح وتلاميذه، وما يفعل من العجائب الكثيرة، من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، فهَمَّ أن يؤمن به ويتبع دينه فلم يتابعه أصحابه، ثم هلك، وولى بعده ملك آخر فكان شديدًا على تلامذة المسيح.
ثم مات، وولى بعده آخر، وفي زمنه كتب مرقس إنجيله بالعبرانية، وفي زمانه صار إلى الإسكندرية، فدعا إلى الإيمان بالمسيح، وهو أول شخص جعل بتركا على الإسكندرية، وصير معه اثنى عشر قسيسًا على عدة نقباء بني إسرائيل في زمن موسى، وأمرهم إذا مات البترك أن يختاروا من الاثنى عشر واحدًا يجعلونه مكانه، ويضع الاثنى عشر أيديهم على رأسه ويبركونه، ثم يختارون رجلًا فاضلًا قسيسًا يصيرونه تمام العدة، ولم يزل أمر القوم كذلك إلى زمن قسطنطين.
ثم انقطع هذا الرسم، واصطلحوا على أن ينصبوا البترك من أي بلد كان من أولئك القسيسين أو من غيرهم، ثم سموه بابا ومعناه أبو الآباء، وخرج مرقس إلى برقة يدعو الناس إلى دين المسيح.
ثم ملك آخر، فأهاج على أتباع المسيح الشر والبلاء، وأخذهم بأنواع العذاب، وفي عصره كتب بطرس رئيس الحواريين إنجيل مرقس عنه بالرومية، ونسبه إلى مرقس، وفي عصره كتب لوقا إنجيله بالرومية لرجل شريف من عظماء الروم، وكتب له الإبركسيس الذي فيه أخبار التلاميذ، وفي زمنه صلب بطرس، وزعموا أن بطرس قال له: إن أردت أن تصلبني فاصلبني منكسًا، لئلا أكون مثل سيدي المسيح فإنه صلب قائمًا، وضرب عنق بولس بالسيف، وأقام بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة، وأقام مرقس بالإسكندرية وبرقة سبع سنين يدعو الناس إلى الإيمان بالمسيح، ثم قتل بالإسكندرية وأحرق جسده بالنار.
ثم استمرت القياصرة ملوك الروم على هذه السيرة، إلى أن ملك مصر قيصر يسمى طيطس، فخرج بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها وأصاب أهلها جوع عظيم، وقتل من كان بها من ذكر وأنثى، حتى كانوا يشقون بطون الحبالى ويضربون بأطفالهن الصخور، وخرب المدينة وأضرم فيها النار، وأحصى القتلى على يده فبلغوا ثلاثة آلاف ألف.
ثم ملك ملوك آخرون فكان منهم واحد شديد على اليهود جدًا، فبلغوه أن النصارى يقولون: إن المسيح ملكهم، وأن ملكه يدوم إلى آخر الدهر. فاشتد غضبه، وأمر بقتل النصارى، وأن لا يبقى في ملكه نصراني، وكان يوحنا صاحب الإنجيل هناك فهرب، ثم أمر الملك بإكرامهم، وترك الاعتراض عليهم.
ثم ملك بعده آخر، فأثار على النصارى بلاء عظيمًا، وقتل بترك أنطاكية برومية، وقتل أسقف بيت المقدس وصلبه، وله يؤمئذ مائة وعشرون سنة، وأمر باستعباد النصارى، فاشتد عليهم البلاء إلى أن رحمتهم الروم، وقال له وزراؤه: إن لهم دينًا وشريعة، وأنه لا يحل استعبادهم. فكف عنهم، وفي عصره كتب يوحنا إنجيله بالرومية، وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس، فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة عزموا على أن يملكوا منهم ملكًا، فبلغ الخبر قيصر، فوجه إليهم جيشًا فقتل منهم من لا يحصى.